Thursday, May 1, 2014

أمنية..


في طريقي للمنزل..

كان حاملاً للعديد من الأكياس البيضاوية الملونة.. المملوءة هواء وبعض السكر المتنكر في صورة قطنية.. إنها أكياس غزل البنات.. في هدوء كان يمر أمام كل السيارات التي لم يجبرها إلا إلزحام للتوقف له.. كان يقف بإبتسامة يعرض أكياسه خفيفة الوزن للبيع..  معظم سائقو السيارات لم يعيروه إنتباه.. بعضهم لم ينظر حتى إليه.. والباقي لوحوا بإيديهم شكراً حينا وحينا قالت أيديهم بصوت غير مسموع "إبتعد عن هنا أيها الحثالة"..

الجميع كان منعزلاً داخل سيارته المكيفة.. أما هو فكان منخرط تماماً في عمله وكأن حرارة الشمس الحارقة و العرق الذي يتصبب من كل أنحاء جبينه لا وجود لهما..

كانت سيارة من بين كل عشرة سيارات تبتاع منه كيساً أو أثنان.. وإبتسامته لم تفارق وجهه..

جاء دور سيارتي لتستقر أمامه.. وبنفس الإبتسامة أشار إلى أكياسه لعلني أبتاع منه.. فقلت له: "أعطني عشرة أكياس من فضلك"  فرد بسعادة: "من عيوني"

ورأيت كيف أنفرجت أساريره من الطلب.. وأخذ يقطع الأكياس بحماس..

أعطاني ما طلبت وأعطيته ما طلب.. ولسبب ما أعددت الأكياس ووجدت أن بحوزتي إحدى عشرة فقلت له: " من فضلك معي أزيد مما طلبت بواحد وهذا حسابه"..  فقال:" نعم أعلم ولكنه هدية مني لك.. "

أحببت الرجل أكثر.. فأخرجت مبلغاً آخر من المال وقلت له: "أيمكنك أن تقبل ذلك مني؟" فنظر إلي نظرة بها من العفة والإحراج.. الحزن والتوسل بألا أكرر طلبي حتى لا يزيد إحراجه.. وفهمت.. وفهم هو أنني فهمت.. وإنصرف عني ولكني لم أنس إبتسامته العزبة ولا العفة في صوته ونظراته.. ربما يملك هذا الرجل من العزة ما لا يملكه العديد من راكبي السيارات الفارهة..

وفي اليوم التالي رأيته.. من شرفة منزلي.. وعلمت أنه ربما أتخذ من هذا الموقع مقراً له لإزدحامه الشديد.. كنت أراقبه كثيراً لا أدري لماذا.. ربما لأنه رغم ظروفه الصعبة قدر على الإحتفاظ بالإبتسامته وهو لا يملك عُشر ما نملك.. ونحن مهما تراكمت ممتلكاتنا وإنجازاتنا مازلنا نلعن الدنيا ونلعن أنفسنا..

بدأت تصويره كل يوم لمدة بضع دقائق.. دقائق متفرقة.. أحياناً من شرفتي وأحياناً  من الشارع.. ورأيت كيف يعطي إبن حارس العقار غزل البنات دون ثمن.. ورأيت كيف يُقبّل المال قبل أن يضعه في جيبه.. ورأيته وهو يكف عن العمل ليصلي في الجامع.. فعلت هذا لبضعة أيام.. ربما أسابيع.. ولا أدري ما الذي شدني إليه.. ولكن كان به شئ جاذب لي..

في اليوم التالي أردت أن أذهب إليه وكلي شغف أن أسأله عنه.. عن حياته.. عن أولاده.. ولماذا يعمل هو بهذه السن..  ولكن إستحيت فطلبت من حارس العقار أن يسأله كم يكسب في اليوم.. وأن يبشره بأن المبلغ سيصله كل شهر دون الحاجة للعمل..

ولكن جاءني رد حارس العقار بأنه لا يعمل من أجل المال.. ولكنه يحب أن يكون وسط الناس..

فاجئني رده أن يحب هذا الرجل أناس معظمهم لا يكترثون لأمره.. لا يهتمون بوجوده أو بما يفعل..  ربما يعتقده معظمهم عالة وحثالة لابد من القضاء عليها لتنقية البلد من هذه المظاهر الغير حضارية..

فذهبت أنا بنفسي إليه.. وقلت ومحاولة إنتقاء الألفاظ كي لا أجرحه: "يا حاج أرئف لحالك وأنت تقف يوميا في هذا الطقس الحار.. فلماذا ترفض أن يأتيك المال وأنت تستمتع بما تبقى لك من العمر.. ؟"

فرد عليّ دون إستغراب من سؤالي ودون أن يتردد: "لا أملك من الدنيا شيئاً ولا أحداً.. لا أريد أن أموت وحدي.. أنا في هذا المكان منذ أكثر من عشرين عاماً.. ربما عندما أتوفى يتذكرني أحدهم بإبتسامة.."

مرت سنوات.. وحال الرجل كما هو.. وحال الناس كما هو.. إلا أن وهنه زاد أكثر.. بدأت أصوره من جديد.. كل يوم.. حتى جاء يوم اختفى فيه "عم صبحي".. فسألت الحارس قال أنه لم يأت اليوم..

غاب عم صبحي لأكثر من أسبوع..  سألت الحارس عن عنوانه فقال أنه يعرفه.. أعطيته مبلغاً من المال وطلبت منه أن يزره ويطمئنني عليه..

وحدث ما كنت أتوقعه.. كان عم صبحي مستلق على فراشه..مريض.. عليل..  ربما ينتظر الموت.. لا يملك من الدنيا شيئاً كما قال ولكنه لم يعلم أن لا أحد تذكره بإبتسامة أو بسوء.. لم يكترث العالم ولا المارة الذين حفظوا وجهه له من الساس.. لم يفتقده أحدهم.. لم يستطع كل طفل أخذ منه كيس غزل البنات مجاناً أن يرد له الجميل..

فقررت أن أفعل له شيئاً..

جمعت كل اللقطات التي قمت بتصويرها.. صنعت فيلماً قصيرا منها.. ربما كان واضح تدهور صحته وضوحاً جلياً في افيلم.. واختتمته بأنه عاش حياته وسيفارقها بعد قليل ولم يكن له إلا أمنية واحدة.. أن يتذكره أحدهم بإبتسامة.. أن يشعر أنه جاء الدنيا بالفعل .. أنه كان هنا..

وعلى الموقع المشهور رفعت الفيلم القصير وطلبت مٍن منَ يكترث أن يشاركنا زيارته بعد ثلاثة أيام.. لم أكن أدري هل سيصمد لهذا التاريخ أم لا..

مرت الثلاثة أيام وشاهد الفيديو الآلاف.. وذهبت جموع لزيارته..

ورغم الأثقال التي شعرنا بها على صدره وهو يستنشق الهواء إلا أن إبتسامته هذه المرة كانت إبتسامة حقيقية.. إبتسامة رضا عن يقين.. وكأنه كان يبتسم طوال حياته من أجل هذه اللحظة..

استمر بعض الشباب في زيارته ومنهم من تكفل بعلاجه.. ومنهم من تكفل بطعامه.. حتى فارق الحياة..

فارق عم صبحي الحياة ولكن شهدت جنازته العديد من الناس.. كل كان يدعي له.. بعضهم كان يبكي.. بعضهم كان صامتاً.. ولكنني على يقين بأنه هو من سيتذكرنا اليوم بإبتسامة.. ونحن من سنتذكره باسى.. لأنه يذكرنا بكم نحن مشغولون بانفسنا وحياتنا.. كم من ذنب يومي نرتكبه لأننا لا نريد أن ننشغل بأحد غيرنا..

وكعم صبحي ملايين يعيشون على هذه الأرض.. لا يطمعون في جاه أو مال أو سلطة.. لا يطمعون في دنيا.. لا يريدون من الدنيا شئ غير قدر من الإهتمام..

الاهتمام..